From: abd_mamo@yahoo.com
.. مغزى الحياة ..
^ جداً رائع ^
تدبرت كثيرًا في مسألة قيام الأمم ، فلاحظت أمرًا عجيبًا !
وهو أن فترة الإعداد تكون طويلة جدًّا ، قد تبلغ عشرات السنين ، بينما تقصر فترة التمكين حتى لا تكاد أحيانًا تتجاوز عدة سنوات !!
فعلى سبيل المثال بذل المسلمون جهدًا خارقًا لمدة تجاوزت ثمانين سنة ؛ وذلكـ لإعداد جيش يواجه الصليبيين في فلسطين ، وكان في الإعداد علماء ربانيون ، وقادة بارزون ..
لعل من أشهرهم عماد الدين زنكي ، ونور الدين محمود ، وصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله جميعًا ..
وانتصر المسلمون في حطين ، بل حرروا القدس ، وعددًا كبيرًا من المدن المحتلة ، وبلغ المسلمون درجة التمكين في دولة كبيرة موحدة ..
ولكن ويا للعجب لم يستمر هذا التمكين إلا ست سنوات ..!
ثم انفرط العقد بوفاة صلاح الدين ، وتفتتت الدولة الكبيرة بين أبنائه وإخوانه ، بل كان منهم من سلم القدس بلا ثمن تقريبًا إلى الصليبيين ..!!
كنت أتعجب لذلكـ ، حتى أدركت السُّنَّة ، وفهمت المغزى ..
إن المغزى الحقيقي لوجودنا في الحياة ليس التمكين في الأرض ، وقيادة العالم .. وإن كان هذا أحد المطالب التي يجب على المسلم أن يسعى لتحقيقها
ولكن المغزى الحقيقي لوجودنا هو عبادة الله ، قال تعالى : [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ]
وحيث إننا نكون أقرب إلى العبادة الصحيحة لله في زمن المشاكل والصعوبات، وفي زمن الفتن والشدائد أكثر بكثير من زمن النصر والتمكين
فإن الله - من رحمته بنا - يطيل علينا زمن الابتلاء والأزمات ؛ حتى نظل قريبين منه فننجو ..
ولكن عندما نُمكَّن في الأرض ننسى العبادة ، ونظن في أنفسنا القدرة على فعل الأشياء ، ونفتن بالدنيا ، ونحو ذلكـ من أمراض التمكين ..
قال تعالى: [ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ
دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ]
ولا يخفى على العقلاء أن المقصود بالعبادة هنا ليس الصلاة والصوم فقط ، إنما هو في الحقيقة منهج حياة ..
إن العبادة المقصودة هنا هي صدق التوجه إلى الله، وإخلاص النية له ، وحسن التوكل عليه
وشدة الفقر إليه ، وحب العمل له ، وخوف البعد عنه ، وقوة الرجاء فيه ، ودوام الخوف منه ..
إن العبادة المقصودة هي أن تكون حيث أمركـ الله أن تكون ، وأن تعيش كيفما أراد الله لكـ أن تعيش
وأن تحب في الله ، وأن تبغض في الله ، وأن تصل لله، وأن تقطع لله ..
إنها حالة إيمانية راقية تتهاوى فيها قيمة الدنيا حتى تصير أقل من قطرة في يمٍّ، وأحقر من جناح بعوضة، وأهون من جدي أَسَكَّـ ميت ..
كم من البشر يصل إلى هذه الحالة الباهرة في زمان التمكين ..؟!!
إنهم قليلون قليلون !
ألم يخوفنا حبيبي من بسطة المال، ومن كثرة العرض، ومن انفتاح الدنيا ..؟!
ألم يقل لنا وهو يحذرنا : [ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ ] ؟!
إن المريض قريب من الله غالب وقته، والصحيح متبطر يبارز الله المعاصي بصحته ..
والذي فقد ولده أو حبيبه يناجي الله كثيرًا، ويلجأ إليه طويلاً ، أما الذي تمتع بوجودهما ما شعر بنعمة الله فيهما ..
والذي وقع في أزمة ، والذي غُيِّب في سجن ، والذي طُرد من بيته ، والذي ظُلم من جبار ، والذي عاش في زمان الاستضعاف
كل هؤلاء قريبون من الله .. فإذا وصلوا إلى مرادهم ، ورُفع الظلم من على كواهلهم نسوا الله ، إلا من رحم الله وقليل ما هم ..
هل معنى هذا أن نسعى إلى الضعف والفقر والمرض والموت ؟!
أبدًا ، إن هذا ليس هو المراد ..!
إنما أُمرنا بإعداد القوة ، وطلب الغنى ، والتداوي من المرض ، والحفاظ على الحياة ..
ولكن المراد هو أن نفهم مغزى الحياة ..
إنه العبادة ، ثم العبادة ، ثم العبادة ، وبكل صورها ..
ومن هنا ، فإنه لا معنى للقنوط أو اليأس في زمان الاستضعاف ، ولا معنى لفقد الأمل عند غياب التمكين ، ولا معنى للحزن أو الكآبة عند الفقر أو المرض أو الألم ..
إننا في هذه الظروف - مع أن الله طلب منا أن نسعى إلى رفعها - نكون أقدر على العبادة ، وأطوع لله ، وأرجى له
وإننا في عكسها نكون أضعف في العبادة ، وأبعد من الله ..
إننا لا نسعى إليها ، ولكننا ( نرضى ) بها..
إننا لا نطلبها، لكننا ( نصبر ) عليها ..
إن الوقت الذي يمضي علينا حتى نحقق التمكين ليس وقتًا ضائعًا ، بل على العكس ، إنه الوقت الذي نفهم فيه مغزى الحياة
والزمن الذي نعبد الله فيه حقًّا ، فإذا ما وصلنا إلى ما نريد ضاع منا هذا المغزى
وصرنا نعبد الله بالطريقة التي نريد ، لا بالطريقة التي يريد !
أو إن شئت فقُلْ نعبد الله بأهوائنا ، أو إن أردت الدقة أكثر فقل نعبد أهواءنا !!
قال تعالى: [ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ]
ولذلكـ كله فإن الله الحكيم الذي يريد منا تحقيق غاية الخَلْق
الرحيم الذي يريد لنا الفلاح والنجاح قد اختار لنا أن تطول فترة الإعداد والبلاء والشدة
وأن تقصر فترة التمكين والقوة ، وليس لنا إلا أن نرضى
بل نسعد باختياره ، فما فعل ذلكـ إلا لحبه لنا ، وما أقرَّ هذه السُّنَّة إلا لرحمته بنا .
وتدبروا معي إخواني وأخواتي في حركة التاريخ ..
كم سنة عاش نوح عليه السلام يدعو إلى الله ويتعب ويصبر ، وكم سنة عاش بعد الطوفان والتمكين ؟!
أين قصة هود ، أو صالح ، أو شعيب ، أو لوط عليهم السلام بعد التمكين ؟!
إننا لا نعرف من قصتهم إلا تكذيب الأقوام ، ومعاناة المؤمنين ، ثم نصر سريع خاطف ، ونهاية تبدو مفاجئة لنا .
لماذا عاش رسولنا إحدى وعشرين سنة يُعِدُّ للفتح والتمكين ، ثم لم يعش في تمكينه إلا عامين أو أكثر قليلاً ؟!
وأين التمكين في حياة موسى أو عيسى عليهما السلام ؟!
وأين هو في حياة إبراهيم أبي الأنبياء ؟!
إن هذه النماذج النبوية هي النماذج التي ستتكرر في تاريخ الأرض
وهؤلاء هم أفضل من ( عَبَدَ ) الله ، [ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ] .
والآن بعد أن فقهت المغزى ، لعلكـ عرفت لماذا لم يعش عمر بن عبد العزيز إلا سنتين ونصف فقط في تمكينه !
وأدركت لماذا قُتل عماد الدين زنكي بعد أقل من عامين من فتح الرُّها ..!
وكذلكـ لماذا قُتل قطز بعد أقل من سنة من نصره الخالد على التتار في عين جالوت !
وكذلك لماذا قُتل ألب أرسلان بعد أقل من عامين من انتصار ملاذكرد التاريخي !
ولماذا لم يستمتع صلاح الدين بثمرة انتصاره في حطين إلا أقل من سنة ، ثم سقطت عكا مرة أخرى في يد الصليبيين !!
ولماذا لم يرَ عبد الله بن ياسين مؤسس دولة المرابطين التمكين أصلاً ..!
ولماذا مات خير رجال دولة الموحدين أبو يعقوب يوسف المنصور بعد أقل من أربع سنوات من نصره الباهر في موقعة الأركـ .!
إن هذه مشاهدات لا حصر لها ، كلها تشير إلى أن الله أراد لهؤلاء ( العابدين ) أن يختموا حياتهم وهم في أعلى صور العبادة
قبل أن تتلوث عبادتهم بالدنيا ، وقبل أن يصابوا بأمراض التمكين .
إنهم كانوا يعبدون الله حقًّا في زمن الإعداد والشدة
فكافأهم ربُّنا بالرحيل عن الدنيا قبل الفتنة بزينتها ..!
ولا بد أن سائلاً سيسأل : أليس في التاريخ ملكـ صالح عاش طويلاً ولم يُفتن ؟!!
أقول لكـ : نعم ، هناكـ من عاش هذه التجربة .. ولكنهم قليلون أكاد أحصيهم لندرتهم !
فلا نجد في معشر الأنبياء إلا داود ، وسليمان عليهما السلام ، وأما يوسف عليه السلام فقصته داميةً مؤلمة من أوَّلها إلى قبيل آخرها ، ولا نعلم عن تمكينه إلا قليل القليل .
وأما الزعماء والملوكـ والقادة ، فلعلكـ لا تجد منهم إلا حفنة لا تتجاوز أصابع اليدين !
كهارون الرشيد ، وعبد الرحمن الناصر ، وملكشاه وقلة معهم ...
لذلكـ ، يبقى هذا استثناءً لا يكسر القاعدة ..
وقد ذكر ذلكـ الله في كتابه فقال : [ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ]
فالذي يصبر على هذه الفتن قليل بنص القرآن ، بل إن الله إذا أراد أن يُهلكـ أمة من الأمم زاد في تمكينها !!
قال تعالى : [ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ]
إنني بعد أن فهمت هذا المغزى أدركت التفسير الحقيقي لكثيرٍ من المواقف المذهلة في التاريخ ..
أدركت لماذا كان عتبة بن غزوان يُقْسِم على عمر بن الخطاب أن يعفيه من ولاية البصرة !!
وأدركت لماذا أنفق الصديق ماله كله في سبيل الله !
وأدركت لماذا حمل عثمان بن عفان وحده همَّ تجهيز جيش العسرة ، دون أن يطلب من الآخرين حمل مسئولياتهم !
وأدركت لماذا تنازل خالد بن الوليد عن إمارة جيش منتصر !
وأدركت لماذا لم يسعد أبو عبيدة بن الجراح بولايته على إقليم ضخم كالشام !
وأدركت لماذا حزن طلحة بن عبيد الله عندما جاءه سبعمائة ألف درهم في ليلة !
وأدركت لماذا تحول حزنه إلى فرح عندما ( تخلَّص ) من هذه الدنيا بتوزيعها على الفقراء في نفس الليلة !!
أدركت ذلكـ كله .. بل إنني أدركت لماذا صار جيل الصحابة خير الناس ..!
إن هذا لم يكن فقط لأنهم عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل لأنهم هم أفضل من فقه مغزى الحياة !
أو قل: هم أفضل من ( عَبَدَ ) الله ؛ ولذلكـ حرصوا بصدق على البعد عن الدنيا والمال والإمارة والسلطان
ولذلكـ ..
لا ترى في حياتهم تعاسةً عندما يمرضون ..!
ولا كآبة عندما يُعذَّبون ..!
ولايأسًا عندما يُضطهدون ..!
ولا ندمًا عندما يفتقرون .. !
إن هذه كلها ( فُرَص عبادة ) يُسِّرت لهم فاغتنموها ، فصاروا بذلكـ خير الناس .!
إن الذي فقِه فقههم ، سعِد سعادتهم ولو عاش في زمن الاستضعاف !
والذي غاب عنه المغزى الذي أدركوه ، خاب وتعس ولو ملكـ الدنيا بكاملها ..!!
إنني أتوجه بهذا المقال إلى أولئكـ الذين يعتقدون أنهم من البائسين الذين حُرموا مالاً ، أو حُكمًا ، أو أمنًا ، أو صحة ، أو حبيبًا ..
إنني أقول لهم : أبشروا، فقد هيأ الله لكم ( فرصة عبادة ) فاغتنموها قبل أن يُرفع البلاء ، وتأتي العافية ، فتنسى الله ، وليس لك، أن تنساه ..
قال تعالى : [ وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ]
وأسأل الله أن يفقهنا في سننه .. وأسأله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين
---------------------------------------------------------------------
د. راغب السرجاني .. حفظه الله ،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق